تعلن وزارة الثقافة أن الحرف اليدوية تمثل ركيزة أصيلة من التراث الثقافي غير المادي وتعبّر عن تفاعل الإنسان مع بيئته المحلية. وتحمل هذه الحرف مهارات وإبداعًا وقيمًا جمالية متوارثة تعكس الهوية وتربط الحاضر بالماضي. وتُسهم في تحويل هذا التراث إلى قطاع اقتصادي إبداعي يسهِّل تنويع مصادر الدخل ويعزز حضور الثقافة في الحياة اليومية. وتُجهز المملكة سياسات تعزز الاعتزاز بهذا التراث وتطويره وتوثيقه بما يتماشى مع مستهدفات رؤية 2030.

أعلن مجلس الوزراء في عام 2025م عامًا للحرف اليدوية، كخطوة تهدف إلى إبراز هذا الموروث محليًا ودوليًا. وتبنّت الجهات الرسمية هذا المشروع الثقافي الوطني، وتولت وزارة الثقافة قيادة جهود تنفيذه. ويسعى المشروع إلى تحويل الحرف اليدوية إلى قطاع اقتصادي إبداعي يعزز الهوية الوطنية. وتنتشر مبادراته عبر المناطق المختلفة وتوفر فرص عمل للحرفيين والحرفيات.

تنوع الحرف في المملكة

تنوع الحرف اليدوية في المملكة يعكس تنوّعها الجغرافي والثقافي. ففي البادية برزت حرفة السدو وبناء بيوت الشعر من صوف الإبل والماعز، وفي الجبال ظهرت أدوات خشبية وفخاريات، أما السواحل فاشتهرت بصناعة القوارب وشباك الصيد. وتدل هذه التنوعات على تفاعل الحرفيين مع بيئتهم وتكيّف تقنياتهم مع المناخ والمواد المتاحة. كما أن المناطق الزراعية تشتهر بصناعات الليف والخوص المستمدة من النخيل التي تُنتج منتجات عملية وجمالية معًا.

وتظل كسوة الكعبة المشرفة ذروة الحرف الإسلامية ورمزها الروحي الأسمى؛ تُنسج من حرير أسود طبيعي وتطرّز بخيوط الذهب والفضة، وتُبدّل سنويًا وفق تقليد دقيق يبدأ برفع الجزء السفلي خلال موسم الحج حمايةً لها. ثم تُفكّ اللوحات وتخاط وتُركَّب على الجدران الأربعة وفق ترتيب تقليدي يحفظ قدسيتها ويظهر تفاصيلها الفريدة. وتُقدَّر كميات المواد المستخدمة بآلاف الكيلوغرامات من الحرير وعشرات الكيلوغرامات من الذهب والفضة، ما يجعل هذه الكسوة شاهدًا حيًا على عمق الحرفة وعلوّ قيمتها الدينية والثقافية.

وتعكس عمارة الطين في المملكة استثمار المعرفة التقليدية في مشروعات تعليمية وتجريبية حديثة، فالنماذج النجدية تعتمد على الطوب اللبن والمواد المحلية مع تقنيات عزل وتهوية طبيعية تعزز الاستدامة. وتؤكد هذه النماذج قدرة الحرف التقليدية على التكيّف مع الاحتياجات المعاصرة من حيث الأداء والراحة والبيئة. كما تظهر المبادئ التصميمية في الفضاءات الداخلية والواجهات بما يحقق توازنًا حراريًا وهوية مكانية واضحة. وتُعد هذه العمارة مثالًا حيًا على كيف تتفاعل المعرفة التراثية مع الابتكار في سياق ثقافي واقتصادي.

وتُعد حياكة السدو ذاكرة حيّة للنسيج البدوي، حيث تقمن النساء بحياكته أفقيًا على نول أرضي باستخدام صوف الإبل والوبر في تشكيلات هندسية مستلهمة من الصحراء وألوانها. وتُعدّ هذه الحرفة جزءًا من التراث الثقافي المادي وغير المادي على حد سواء، وتُسجل كعنصرٍ ذو قيمة عالمية عبر الاعترافات الدولية. كما تُبرز حياكة السدو كيف تتحول مِهْن الحِرف إلى رصيد ثقافي حي قابل للنقل والتجديد عبر الأجيال.

وتبرز مظاهر أخرى مثل زخرفة الأبواب النجدية المنحوتة يدويًا حيث تمثل امتدادًا لموروث البيت والأسواق القديمة، وتوثّق تقنيات الحزّ والنحت والتلوين في نقوش ثلاثية الأبعاد؛ وتدعم مبادرات وطنية تقرّب الحِرفة من المستهلكين وتدمجها في منتجات معاصرة. كما تبرز الحرف الورقية في فنون التجليد والتذهيب لصون المخطوطات، وتُدرج هيئة التراث هذه الحِرفة ضمن السجل الوطني للحرف التقليدية. وتتجلى الدِّلال العربية كرموز للضيافة المرتبطة بمناطق الحجاز، وتُبرز أسماء تقليدية مثل الدلة الحساوية والقرشية كعناصر ثقافية تُروى ضمن روافد الهوية المحلية.

تمكين الحرفيين والاقتصاد الإبداعي

وتشير الإحصاءات الرسمية لهيئة التراث إلى تسجيل 51 حرفة معتمدة عبر منصة أبدع، إضافة إلى تسجيل 9,824 شخصًا في السجل الوطني للحرفيين، منهم 2,042 حرفيًا و778 حرفية، ما يعكس مشاركة واسعة للنساء في هذا المجال. وتقدّم منصة أبدع خدمات متنوعة تدعم حيوية القطاع الثقافي السعودي وترفع من كفاءته وجاذبيته الاستثمارية، بما يجعل الثقافة عاملًا مؤثرًا في الاقتصاد الوطني. وتوفر المنصة تراخيصٍ مختلفة في الحِرف اليدوية للأفراد والمنشآت، مثل رخصة ممارس حرفي (أفراد) ورخصة محل بيع منتجات حرفية تراثية يدوية (منشآت).

وبحسب دراسة اقتصادية أعدت ونشرت في أبها عام 2024 تتركّز الكثافة الحرفية في ست مناطق تمثل نحو 76% من إجمالي الحرفيين في المملكة، وهي مكة المكرمة والرياض والمدينة المنورة والمنطقة الشرقية وعسير وتبوك والجوف. ويعمل نحو 30% من الحرفيين في خمس حرفة رئيسة هي التطريز والسدو وصناعة الأعشاب العطرية للزينة وصناعة الحلوى الشعبية والخوصيات، بينما ينتشر الباقي في مجموعات فرعية متعددة. وتؤكد الدراسة أهمية بناء علامة تجارية للحرفيين وتسويق المنتجات محليًا وعالميًا عبر منصات رقمية للوصول إلى فئات مستهدفة بشكل أكثر فاعلية.

وتسهم المبادرات الوطنية في تمكين الحِرفيين عبر إنشاء المعهد الملكي للفنون التقليدية (ورث) وتطوير آليات حفظ التراث وتعزيز الابتكار في الحِرف والفنون، حيث يقدم برامج تعليمية وتدريبية متخصصة وينفّذ دورات وفعاليات في مجالات مثل المجوهرات والبناء التقليدي وصناعة الأواني الخشبية وقط العسيري وغيرها. كما أطلقت وزارة الثقافة مبادرات أخرى تشمل تأسيس الشركة السعودية للحرف والصناعات اليدوية وتشييد 27 مركزًا للإبداع الحرفي وتفعيل برنامج التراث الصناعي لحفظ الموروث الإنتاجي الوطني. وتُسهم هذه الجهود في ربط المهارات التقليدية بسياق الاقتصاد الإبداعي وتوطين الحرفة كمسار اقتصادي مستدام، مع تعزيز حضورها في الحياة اليومية المحلية والدولية.

وتؤكد مبادرات مثل افتتاح بيوت الحرفيين وتوسعها من 12 بيتًا في 2023 إلى 14 بيتًا في 2024 وجود مسار تنموي يفتح مساحات للتدريب والتسويق للحرفيين، مع الحفاظ على الأصالة وتكاملها مع متطلبات العصر. وفي عام 2025م، أعلنت الحكومة عامًا للحرف اليدوية كإطارٍ استراتيجي يعزز توثيق الموروث وتمكين الحرفيين وربط الحرفة بالهوية الوطنية كعنصر اقتصادي وثقافي متكامل. وتبرز الصورة النهائية للمشهد أن الحرف اليدوية في المملكة تجمع بين الأصالة والحداثة عبر تقنيات بيئية مستدامة، وتواصل مسارها من النبض التراثي إلى قدرة إنتاجية واقتصادية تقودها نحو حضور محلي وعالمي أقوى.

شاركها.